لن يكون خيالاً علمياً في المستقبل القريب أن يفتح الفرد في بيته باب جهاز يشبه «البراد» المنزلي ليحصد خضراوات طازجة مزروعة عمودياً ويضعها مباشرة على طاولة الطعام، إذ تشهد تقنيات المزارع العمودية تطورات متلاحقة سرعتها تحديات الجائحة وبدأت في الانتشار محلياً وعالمياً وهي تؤسس لحل شامل مع معضلة الأمن الغذائي، حيث تختصر المواسم والمسافات.
وتشهد الإمارات والعالم توجهاً متزايداً نحو تطوير المزارع العمودية باعتبارها مكوناً واعداً لمحفظة حلول تحديات الأمن الغذائي. وفي حين عززت الجائحة من تسارع هذا التوجه إلا أنها سلطت الضوء على ميزة حيوية للقطاع الناشئ تتمثل، إلى جانب الكفاءة التشغيلية والحصاد على امتداد كافة المواسم، في إمكانية إنشاء المزارع العمودية بالقرب من الأسواق والمستهلكين داخل المدن بمساحات متنوعة ومرنة مما يخفض بشكل كبير من تكاليف النقل والشحن الخارجي والداخلي، ويسهم بالتالي في تخفيف مخاطر اضطرابات سلاسل الإمداد عالمياً التي أثرت على حركة السلع عاماً والأغذية خاصة في ذروة الجائحة ولا تزال تؤثر عليها مع ارتفاع تكاليف الشحن البحري.
ويتوقع عاملون في القطاع أن التطورات المتلاحقة التي يشهدها قطاع المزارع العمودية لن تسهم فقط في تخفيض التكاليف وتوسيع فئات وكميات المحاصيل، بل يمكن أن يشهد العالم خلال السنوات العشر المقبلة منازل عمودية في البيوت ضمن جهاز يشبه البراد المنزلي ليحقق نوعاً من الاكتفاء الذاتي المنزلي.
نقطة بداية
وينظر عيسى الغرير، رئيس مجلس إدارة شركة «عيسى الغرير للاستثمار» إلى المزارع العمودية باعتبارها نقطة بداية لآفاق أوسع نحو المزيد من تنويع مصادر الأغذية الزراعية محلياً، ويؤكد على ضرورة تعزيز الاستفادة الأمثل من هذه التقنيات، إذ إنها ستغير الكثير من منظومات الزراعة في العالم أجمع وليس فقط في البيئات الصحراوية بل في مواسم الشتاء أيضاً في المناطق الباردة.
ولفت إلى أن ارتفاع التكاليف في البدايات شيء طبيعي في جميع التقنيات والمنتجات الجديدة وحديثة العهد، وهنا تكمن أهمية الأبحاث والتطوير والابتكار لخفض التكاليف تدريجياً والاعتماد على آليات بديلة ناجعة على غرار الطاقة الشمسية كمصدر للكهرباء في المزارع العمودية.
ويحقق استخدام الزراعة المائية في المزارع العمودية وفورات بنسبة 95 % باستخدام المياه مقارنة بالزراعة التقليدية، كما أن هذه المزارع تحتاج مساحات من الأرض أقل بـ 99 % لتوفير نفس كمية المحصول المزروع تقليدياً بحسب غوستاف ستوغ الرئيس التنفيذي للعمليات التجارية في شركة «فيرتكال فيوتشر» من المملكة المتحدة والمتخصصة في بناء أنظمة المزارع العمودية المؤتمتة بالكامل من خلال الروبوتات والبرمجيات.
تكاليف الشحن
ويوضح غوستاف ستوغ أن «فيرتكال فيوتشر» تقوم بتطوير منظومات المزارع العمودية باعتبارها إضافة ذات قيمة اقتصادية للأمن الاقتصادي، إذ يمكن على سبيل المثال بناء منشأة للزراعة العمودية في منطقة الشرق الأوسط لإنتاج محاصيل زراعية بتكلفة مماثلة لزراعتها في حقل بالمملكة المتحدة على سبيل المثال، لكن الميزة هنا تكمن في توفير تكاليف شحن المحصول.
ويلفت إلى أن المزارع العمودية المؤتمتة بالكامل على غرار تلك التي تطورها شركة «فيرتكال فيوتشر» تعتمد بالكامل على البرمجيات وأنظمة الزراعة المائية الموفرة للمياه مع تدوير كامل للمواد مع إمكانية الإنتاج الزراعي على نطاق واسع بأحجام كبيرة، يمكنها توفير محاصيل زراعية ذات جودة أفضل وبمخلفات أقل.
وتعليقاً على ارتفاع التكلفة بين المزارع التقليدية والعمودية، أشار غوستاف ستوغ إلى أنه لا يميل إلى الطرح القائل بأن المزارع العمودية أكثر كلفة من نظيرتها التقليدية، مشيراً إلى أن إنشاء مزرعة تقليدية يتطلب استثمارات رأسمالية تشمل الجرارات وتجهيزات الري ونشر البذور والأسمدة والعمالة وغيرها إلى جانب التكاليف التشغيلية المستمرة، أما من ناحية الزارعة التقليدية فبعد ضخ رأس المال المبدئي لبناء وتجهيز المنشأة، فإن التكلفة التشغيلية محدودة جداً على المدى الطويل، حيث تعمل المزرعة على مدار العام بشكل مؤتمت بالكامل وتقدم محاصيل زراعية بتكاليف ثابتة على امتداد المواسم.
وأوضح ستوغ أن المزارع العمودية تسجل نمواً متسارعاً على مستوى العالم، وأعطت الجائحة دفعة إضافية لهذا النمو، فعلى سبيل المثال، تستورد مدينة نيويورك 90 % من الغذاء وتعرضت لمخاطر توقف سلاسل التوريد في ذروة الجائحة وبدأ تدفق الأغذية بالتراجع مما شكل خطراً حقيقياً مع احتمال حدوث مجاعة في حال استمرت تلك الأزمة لمدة أطول، وهنا في هذه المناطق من العالم يتم استيراد الخضراوات من أماكن بعيدة مثل أستراليا مما يفرض تكاليف مرتفعة وآثار بيئية أيضاً نتيجة الشحن البحري والجوي، ومن المتوقع أن تقود منطقة الخليج النمو في الطلب على الزراعة العمودية.
وأضاف: «لذا تشكل المزارع العمودية حلاً فاعلاً لزراعة المحاصيل حيثما يوجد الطلب عليها، مما يختصر المسافات والتكاليف والانبعاثات».
نطاق المحصول
وفيما يتعلق بأبرز التحديات أمام الزراعة العمودية قال ستوغ: لا يزال القطاع حديثاً وفي طور النضوج ومن الضروري الموازنة بين إنشاء المزارع العمودية التي تدر الأرباح وتسهم في ذات الوقت بالأمن الغذائي وبين حقيقة أن هذه المزارع تستطيع حالياً فقط توفير بعض أنواع الخضراوات، لذا فإن التحدي الأهم خلال الفترة المقبلة يكمن في تطوير المزارع العمودية لتلعب دوراً أكبر في الأمن الغذائي من خلال توسيع نطاق محصولاتها.
ومن جانب آخر، لفت ستوغ إلى أن زراعة النباتات الطبية آفاق واعدة أمام المزارع العمودية، حيث تشكل مصدراً حيوياً لصناعة الأدوية المعتمدة في مكوناتها على الأعشاب والأدوية النباتية والعشبية، إذ يجب أن تنمو النباتات المستخدمة في الصناعات الدوائية في بيئة طبيعية خالية من أي أمراض والمبيدات وهو ما يمكن أن توفره المزارع العمودية بكفاءة وفعالية.
حلول واقعية
وتشكل المزارع العمودية مكوناً حيوياً من مجموعة الحلول الواقعية لتحديات الأمن الغذائي العالمي، إذ ليس هناك حل سحري واحد لهذه التحديات وفقاً لمهلام مرتزا المدير التنفيذي لشركة «أُنس فارم»، وهي من أكبر المزارع العمودية في دول الخليج وتأسست في منطقة القوز بدبي عام 2018 وتوفر مجموعة من الخضراوات الورقية والأعشاب و«مايكوجرين» والأعشاب، وتورد منتجاتها لقطاع الضيافة من فنادق ومطاعم وكذلك إلى منافذ التجزئة.
وتصل الطاقة الإنتاجية لمساحات الزراعة التي تمتد لهكتارين إلى 1.5 طن من الخضراوات الورقية يومياً ولديها أيضاً أزهار قابلة للأكل وغيرها. كما تخطط الشركة للتصدير خلال الفترة المقبلة إلى أسواق دول الخليج وغيرها. ونجحت الشركة في منافسة المنتجات الغذائية المستوردة في الأسواق المحلية من ناحية الجودة والسعر.
وحول فروقات التكاليف بين الزراعة التقليدية والعمودية قال مرتزا: تتم الزراعة بشكل عمودي ضمن بيئة مثالية ومتناغمة يتم التحكم فيها بالكامل لذا يتم زراعة ضعفي طاقة المزرعة التقليدية مع توفير بنسبة 90 % من المياه، وبالتالي فإن الطاقة الإنتاجية لكل متر مربع أكبر من المزرعة التقليدية.
ويشير إلى أن مساحات معظم المزارع العمودية حالياً محدودة جداً، ويتوقع خلال الأعوام المقبلة أن يتم إنشاء مزارع عمودية كبيرة بإمكانات تجارية أوسع.
ويؤكد مهلام مرتزا، أن الإمارات تتمتع برؤية مستقبلية ثاقبة في مختلف المجالات ومن ضمنها تلك المخصصة لتطوير مجال الزراعة العمودية، ويشير إلى إمكانية إنشاء مزارع عمودية داخل المدن في الدولة مما يعزز فعالية وكفاءة أدائها من الناحية اللوجستية.
لكن تكاليف الطاقة الكهربائية تشكل تحدياً كبيراً مقارنة بالمزارع التقليدية بحسب مرتزا، وهنا يمكن أن يكون الحل في اعتبار المزارع العمودية مناطق زراعية وتعامل بالمثل مع المزارع التقليدية من حيث تكاليف المياه والكهرباء، مما يجعل المنافسة عادلة بين الطرفين.
ويشير إلى أن تقنيات الزراعة العمودية تشهد العديد من التطويرات بما يشمل كفاءة الإضاءة والأتمتة وأنظمة الري، وهناك تركيز أكبر على تنويع القدرات الزراعية لتشمل فئات أوسع من مجرد الخضراوات الورقية لتشمل على سبيل المثال الطماطم وفواكه وخضراوات أكثر.
استهداف الربحية
من جانبه يشير كيريل زيلنكسي، الرئيس التنفيذي لشركة «آي فارم» ومقرها فنلندا وتطور خدمات متكاملة للمزارع العمودية تشمل التقنيات والتصميم وآليات التشغيل والبناء، إلى أن أبرز تحديات القطاع تكمن في ارتفاع تكاليف التقنيات الزراعية والتجهيزات، نظراً لتنوع التقنيات المستخدمة ودمجها للعمل على غرار تقنيات التحكم بالحرارة والإضاءة والكهرباء، وبالتالي ارتفاع حجم رأس المال لتأسيس المشروع، لكن هذه التكاليف تختلف من دول وأخرى، وعلى المدى الطويل تتحول مشاريع المزارع العمودية إلى الربحية على المدى الطويل وهو ما لم يكن ممكناً من 5 سنوات.
وعلى غرار سائر التقنيات الحديثة مرتفعة التكاليف في بداياتها كأجهزة الكمبيوتر والهاتف الجوال وغيرها، يوضح كيريل زيلنكسي أن الأسعار والتكاليف تنخفض تدريجاً مع التطور واتساع الإنتاج وهو ما يحصل مع تقنيات المزارع العمودية، وستتسع إمكانات القطاع أيضاً لتشمل فئات زراعية أكثر من المتوافر حالياً بفضل التطور التقني، ويأتي أحد دوافع النمو في أن المزارع العمودية تقلل تكلفة نقل المنتجات الزراعية بشكل هائل، حيث يمكن إنشاء المزارع داخل المدن والأسواق الرئيسية التي يتواجد فيها المستهلكون.
ويمكن في المستقبل بحسب زيلنكسي أن يتم إنشاء المزارع العمودية على المستوى المنزلي لتشكل اكتفاءً ذاتياً من الغذاء النباتي للعائلات، فمع المزيد من انخفاض التكاليف وتطور التقنيات بشكل أكبر خلال الفترة المقبلة يمكن أن تكون المزرعة في المنزل على غرار البراد المنزلي، إذ يمكن الآن إنشاء هذه المزارع في الفنادق والمستودعات، ويتوقع زيلنكسي أن تدخل المزارع الحيوية كتجهيزات منزلية فعلية خلال 5 أو 10 سنوات.
حوافز وتسهيلات
وتشكل الكهرباء العامل الأكبر للتكلفة بالنسبة للمزارع العمودية بحسب أونيكانان باتشيكاران خبير الاقتصاد الزراعي في شركة «تروفيك»، التي تدير مزرعة عمودية تعتمد على الزراعة المائية في الشارقة وتنتج 1.5 طن يومياً من خلال زراعة مساحة تبلغ 11 هكتاراً، الذي يشير إلى أن المزارع المائية العمودية تصنف ضمن فئة الزراعة المتقدمة وليس ضمن فئة المزارع التقليدية لذا لا تحصل على الحوافز والتسهيلات التي تحصل عليها المنشآت الزراعية الأخرى.
ويوضح أونيكانان باتشيكاران، أن الزراعة المائية عالمياً تشكل 35 % من المزارع العمودية وتسجل نمواً متزايداً في ظل ميزاتها المتنوعة في توفير المياه وانخفاض الانبعاثات الكربونية، كما تتميز الزراعة المائية ضمن المزارع العمودية بيئة آمنة تماماً وخالية من المبيدات، كما يمكن إعادة تدوير وتنقية المياه بتقنية التناضح العكسي على غرار ما تقوم بها شركة «تروفيك» في مزرعتها العمودية.