إن عظمة الشعوب تُقاس بمدى قدرتها على التعلم والفهم وكسب المعرفة، ولا سبيل لذلك من دون القراءة، فهى النور الذى يرشد إلى الحضارة، وهى التى تمنحنا الدافع الجميل لتغيير حياتنا للأفضل، ومن ثم فاحترام الكتب والمحافظة عليها واجب تربوى وأخلاقى، وكم هى عظيمة تلك الأمم التى تعظِّم الكتاب وتحترمه وتعتبره فردًا من أفراد كل بيت فيها، لأنها تدرك جيدًا أن البيوت بلا كتب أجساد بلا أرواح، ومع الكتاب يعيش الإنسان أكثر من حياة.
فى هذا السياق، استوقفنى هذا العنوان الذى تصدر لافتات كبيرة فى شوارع العاصمة القاهرة “لو ليك فى حاجة، يبقى ليك فى الكتب”، وهو شعار الحملة التى أطلقتها هيئة الشارقة للكتاب تحت عنوان “إذا مهتم بشى.. يعنى مهتم بالكتب”، واحدة من أكبر الحملات الثقافية غير الربحية فى المنطقة وعلى مستوى العالم، تشكل علامة مفصلية فى تاريخ الجهود الثقافية التى تقودها إمارة الشارقة بدولة الإمارات، وهيئة الشارقة للكتاب على المستوى المحلى والإقليمى والعالمى، لتسجل تاريخًا جديدًا لرؤية الشارقة الثقافية وخطابها الحضارى مع العالم الرامى إلى دعم وصول الأفراد فى المجتمعات إلى الكتب وهى رسالة عابرة للأجيال، تخاطب الإنسانية جمعاء، ويمكن الاستناد عليها فى تحقيق نقلات معرفية وإبداعية مفصلية فى تاريخ المعرفة الإنسانية بوجه عام.
على مدار سنوات عديدة أزور إمارة الشارقة فى نوفمبر من كل عام، لأحضر فعاليات معرض الشارقة الدولى للكتاب، ثالث أكبر معرض للكتاب فى العالم، ويعرف بـ”المعرض الكبير”.. إذ تقيم الشارقة معرضًا آخر لكتب الأطفال فى أبريل من كل عام، وأسجل هناك حلقات من برنامجى “بالبنط العريض” على القناة الفضائية المصرية، والتقى كبار الكتاب والمثقفين والمفكرين والسياسيين فى العالم، وتحتفظ إمارة الشارقة فى روحى وعقلى بمكانة خاصة، وأراها كل عام تستحق بلا منافس لقب عاصمة الكتاب فى العالم رغم تنقل هذا اللقب بين العواصم العالمية من عام لآخر.
ما أزال أذكر ما قاله لى أحمد بن ركاض العامرى رئيس هيئة الشارقة للكتاب فى أحد اللقاءات المتكررة بيننا، قال: “الكتاب هو البطل الذى نعمل من أجله، ونأمل أن يصل بأيدينا للعالم، نعمل دومًا على تقريب الكتاب إلى كل فرد، فالكتب ليست للمثقفين والمهتمين بالأدب والفكر والتاريخ فقط، إنما هى لكل الناس”.
ما يلفت النظر دومًا فى هيئة الشارقة للكتاب أنها تعمل وفق استراتيجية طويلة المدى ودقيقة للغاية.. لدرجة أننى عندما سألت العامرى فى إحدى دورات معرض الشارقة للكتاب عن بعض عناوين الدورة اللاحقة من المعرض، فابتسم وقال: تقصد ما بعد المقبلة، فقلت: كيف؟ أجاب: لقد انتهينا من ترتيب كل شىء عن الدورة المقبلة، والآن نحن بصدد ترتيب الدورة التالية لها، هذا هو الفكر، وهذه هى المنظومة التى تعمل باحترافية وانضباط.
وبنفس الاستراتيجية طويلة المدى، أطلقت هيئة الشارقة للكتاب حملتها “إذا مهتم بشى.. يعنى مهتم بالكتب”، معتمدة على أن المشاريع الثقافية ذات أمد بعيد وتأثيرها لا ينتهى بمجرد انتهائها ولا تتقيد بفترة زمنية محددة وإنما هى نتاج عمل متواصل يمثل مسيرة تراكمية طويلة وممتدة عبر الزمن لها محطات تنتقل من واحدة لأخرى، ترسخ الفكرة فى ذاكرة الأجيال وتجعل من قراءة الكتب فعلاً يوميًا، والآن تتنقل حملة الشارقة بين عواصم العالم من نيويورك إلى لندن وباريس وصولاً للقاهرة والرياض تروج للكتاب وللقراءة، تخاطب المهتمين عبر العالم وتثق هيئة الشارقة للكتاب أنه لا يوجد عدد محدد من المهتمين بالكتب، وإنما يوجد 7.9 مليار قارئ على وجه الأرض، ولكل فرد منهم كتب تناسبه وتثير اهتمامه، وتمنحه المتعة والمعرفة والعلم، سواءً كانت كتب فى السياسة، أو التاريخ، أو الاقتصاد، أو الرياضة، أو الموسيقى، أو التصوير، أو الفنون المختلفة، وغيرها من الاهتمامات والهوايات، وبإمكان كل شخص أن يجد ما يهمه.
فى مصر بلد الإبداع والفنون وموطن أعظم الأسماء التى تصدرت عناوين الكتب عربيًا وعالميًا، وزعت هيئة الشارقة للكتاب بذكاء شديد شعار حملتها فى القاهرة باللّهجة المصرية “لو ليك فى حاجة.. يبقى ليك فى الكتب”، وشهدت تفاعلاً كبيرًا على وسائل التواصل الاجتماعى شارك فيه فنانين ومثقفين وكتاب، وكل من يهتم بالكتاب، وأسعدنى تصريح أحمد العامرى عن وصول الحملة للقاهرة عندما قال إنه توقع هذه الحفاوة، وأن مصر سباقة ومساهمتها كبيرة فى الثقافة الإنسانية فى كل ميادين المعرفة والإبداع، وأن انطلاق الحملة فى مصر يؤكد الرؤية التى تجمع القاهرة مع الشارقة تجاه تحقيق النهضة الشاملة، والارتقاء بالمجتمعات من خلال الكتاب، والتمسك بأدوات المعرفة.
حملة “إذا مهتم بشى.. يعنى مهتم بالكتب” تستند فى رأيى على الرؤية المركزية التى يقوم عليها مشروع الشارقة الثقافى والحضارى، التى وضعها الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمى، عضو المجلس الأعلى، حاكم الشارقة، وهو مفكر كبير يقدس العلم ويجل المعرفة واستطاع أن يعطى الشارقة طابعًا خاصًا بأن جعل لها مشروعًا ثقافيًا وحضاريًا يميزها، يقوم على الاستثمار فى الإنسان عقلاً وروحًا، بدأ من الشارقة وتوسع طوال 40 عامًا ليشمل المنطقة والعالم كاملاً، لبناء مجتمع قادر على تحقيق تطلعاته المستقبلية، وتحقيق نقلات معرفية وإبداعية كبيرة، استطاع الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمى، أن يوجد رابطًا حقيقيًا ومستدامًا بين الإنسان والكتاب، ويمد جسور التواصل مع مختلف ثقافات العالم، مستندًا على أهمية القراءة والمعرفة، ومرتكزًا على الكتاب.
حملة “إذا مهتم بشى.. يعنى مهتم بالكتب” تحمل فى طياتها أيضًا لغة عصرية تتجاوز الطرق التقليدية للترويج للكتاب وتتوافق مع كل ما يتطلبه العصر من تنوّع وإبداع وإيقاع سريع ومعرفة تامة بتوجهات ورغبات الأفراد بمختلف اهتماماتهم، وتخاطب الأجيال الجديدة التى تحتاج لمعارف متخصصة فى أوقات معينة.. فتبحث عنها فى لحظتها، وتكتسب المهارة، وتجيب على التساؤل الذى من أجله بحثت.. فقبل أيام على سبيل المثال قالت لى ابنتى الكبرى، 12 عامًا، إن هاتفها تعطل لسبب ما و بعد دقائق جاءت لتقول لى إنها أصلحته فسألتها: كيف؟ قالت: قرأت عن المشكلة وكيف أعالجها ونجحت فى إصلاحه، فابتسمت وقلت: إذًا الحل فى القراءة، ومن ثم فحملة “إذا مهتم بشى.. يعنى مهتم بالكتب” لا تدعو إلى القراءة فحسب، وإنما تدعو إلى اكتساب المهارات والمعارف وتشجع وتدعم الإبداعات، فهناك كتب لكل شخص وحول أى موضوع وعن أى شغف أو فكرة، فلو كل شخص مهتم بشىء قرأ عنه سيصل إلى مرحلة جديدة من الحرفية والمهنية والإبداع، فالقراءة توسع المعارف وتطور المهارات وتستحدث الحلول والابتكارات.
أخيرًا.. فى ظل ما يشهده العالم أجمع من تقلبات وتحولات وحراك سياسى ومجتمعى لم تكن منطقتنا العربية ببعيدة عن التأذى منه عقب أزمات نالت من استقرار بعض أوطاننا العربية، لا يسعنا إلا أن نشكر هيئة الشارقة للكتاب التى فى رأيى تحاول أن تجعل من الكتاب وطن لمن لا وطن له، فبالنسبة للإنسان الذى أجبرته الصراعات على ترك بلاده، يصبح له الكتاب وطن يعيش فيه، وجليس فى المنفى والاغتراب.