
كم مرة قرأنا أن العين هي مرآة الروح.. كم مرة سمعنا أنها نوافذ الروح والجسد.. تدمع لتنثر قصائد حب أو وجع أو فرح.. تشع في الفصول الدافئة، حين يزدهر القلب بربيعه وتذبل وتحتضر، وقد تسقط أيضاً من وجه صاحبها حين يحترق الفؤاد من هول الحزن وشدة الألم.
لقد ذكر الإمام ابن قيّم منذ أكثر من تسعة قرون «أن العيون مغاريف القلوب، بها يعرف ما في القلب، وإن لم يتكلم صاحبها».
كم كان صادقاً ومحقاً في قوله، فمن رأى صور الأسير المفرج عنه بدر دحلان قبل الاعتقال وبعده يفهم سقوط الإنسانية في فخها الكبير، فخ نصبته بنفسها لنفسها. فخ الوحشية والحيوانية والبشاعة. لقد فُتِحَت عيناه بعد الاعتقال من شدة الصدمات إلى أوسع مداهما لترويا لنا قصة انحدارنا إلى أسفل القاع.
ففي كل نظرة جامدة منهما، تلمح آثار العذاب والضياع. تلمح شظايا روح اغتصبت بين جدران السجون القاسية، وبقايا إنسان ذبح مراراً وتكراراً على مدار أيام أمضاها بين أنياب القهر والاضطهاد والتعذيب.
كل دمعة متحجرة في عينيه تحمل معها عبء الليالي الطوال التي قضاها في قفص الخوف مربوطاً بجنزير الخذلان. وفي كل نظرة تجد أسئلة لا حصر لها، تساؤلات عن الإنسانية وكيف اختفت، عن العدالة وأين ضاعت، عن الرحمة وكيف تبخرت في هواء مليء بالكراهية والبغضاء.
إنهما ليستا مجرد عينين؛ بل هما شاهدان على جرم نتنياهو الكبير ووحشية جيشه وشعبه وتواطؤ العالم، على قصة من الألم لا تُحكى بالكلمات، بل تُقرأ في نظرة شاب فلسطيني أسير، تُشعرنا بمدى فداحة الظلم الذي يعيشه الإنسان حين يصبح الأسير بلا حول ولا قوة، في مواجهة سجانٍ فقد كل معاني الإنسانية. عيناه هما الصرخة الأخيرة الصامتة التي قد تزلزل أركان القلوب. عيناه تنادينا لنقف ولو لمرة يتيمة بجانب الحق، لنحارب الظلم، لننقذ ما تبقى من إنسانيتنا قبل أن تضيع تماماً في ظلمات القسوة والتجاهل.
هكذا انتشرت صورته على كل صفحات التواصل الاجتماعي وتداولها معظم رواد الـ»سوشيل ميديا» عربياً وعالمياً، ربما لأنها تفوق كل ما يُكتب. نظرة شبهها كثيرون بنظرة الألفي ياردة التي عرفت عام 1945 من خلال لوحة الفنان الأمريكي توم ليا. نظرة الصدمة القتالية وصدمة القذيفة التي شاعت في الوسط العسكري أيام الحرب العالمية الثانية. لوحة توم ليا تجسد صورة جندي مصدوم شاخص العينين من فظاعة القتل والمشاهد القاسية التي عاشها خلال الحرب. هي نظرة عرفت أيضاً خلال الحرب العالمية الأولى، وقد أصيب بها حوالي 80 ألف جندي.
إن الحربين العالميتين الأولى والثانية استمرتا لسنوات طويلة تعرض خلالها الجنود إلى صدمات بسبب الخوف والقلق من انفجار القذائف والألغام ورؤية الجنود الرفاق مشوهين أو قتلى. لقد أثرت هاتان الحربان على صحة المحاربين النفسية إلى سنوات طويلة جداً.
لكن الأسير بدر دحلان اعتُقَل كي تختصر عيناه الزمن. لقد عاش كل ما تعرض له الجنود في الحروب العالمية على مدى سنوات، في شهر اعتقال واحد. وكل ذلك بفضل بطش وقسوة وعنف وظلم واستبداد وحقد جيش الاحتلال المتعطش للدماء والفاقد للأحاسيس الإنسانية. أما المضحك المبكي فهو اقتناع جيش الظلام الإسرائيلي بأنه الجيش الأكثر أخلاقية في العالم. والعكس هو أكثر صحة من الصحيح بعينه. مع أن عبارة «أخلاقي»، حتى في نفيها، يصعب استخدامها حين نشير لعصابة من مصاصي الدماء. جيش ارتكب أكبر المجازر وأعنفها في تاريخ الإنسانية.
إن نظرة بدر دحلان ليست الأولى من نوعها، فنحن لم ننسَ بعد الطفل محمد أبو لولي.. لم ننسَ عينيه ووجهه وبكاءه. لن تجهض ذاكرتنا ما عشناه لحظة وصوله إلى المستشفى، وكيف لفظت عيناه كل مفردات الرعب والخوف والصدمة في دقائق معدودة. وكيف كانت ترتجف أطرافه فيما كان يحاول الطبيب تهدئته.
يا الله!
منذ أيام قليلة، انتشر أيضاً فيديو لبنت صغيرة جداً لا يتعدى عمرها الست سنوات، وهي تجري بكل ما تبقى في جسدها المنهك من قوة. تجري بين الركام وهي تصرخ بشكل هستيري «يا الله»! رددتها عدة مرات. كانت تجري رعباً من هول الصدمة. تُرى هل شهدت موت أهلها كلهم كما يحصل يومياً مع أطفال كثيرين في غزة؟ هل طُبعت دماء أمها على صدرها. هل سمعت صرخة أخيها الأخيرة؟ هل رأت المسعفين وهم يرفعون الحجارة عن أهلها وغاب عقلها من هول المشاهد؟
تلك الفتاة، بصرخاتها المتكررة، لم تكن مجرد طفلة تجري خائفة، بل كانت تجسد ملحمة من الرعب والألم. كان صوتها يستغيث بالسماء، يبحث عن عدالة لم تجد لها مكاناً على الأرض. تلك الصرخة، كانت تجسد معاناة شعب بأكمله، يواجه قسوة لا ترحم، وعالماً يبدو أنه قد أدار ظهره لآلامهم.
هل كانت تجري بين الركام وهي تتذكر حضن أمها، الذي بات بارداً؟ هل كانت تجري وهي تستحضر في ذاكرتها الصغيرة صور أهلها وهم يتساقطون كأوراق الخريف، بعدما كان بيتهم ملاذاً آمناً؟ عيناها كانتا تبرقان بدموع لم تجد وقتاً لتسقط، وملامح وجهها الصغيرة كانت مختلطة بين الرعب واليأس. في لحظة هربها، كانت تنقل لنا صورة حية لما يعيشه كل طفل في غزة، تلك البقعة الصغيرة التي باتت مقبرة حيّة لأحلام الطفولة وبراءتها. كيف يمكن لطفلة في هذا العمر أن تستوعب الموت والدمار؟ كيف يمكن لقلب صغير أن يتحمل كل هذا الفقد؟
إن جريها بين الركام رسالة أخرى صامتة إلى العالم، رسالة تقول: «أين أنتم؟ أين الإنسانية؟ كيف يمكن أن تسمحوا بهذا؟» لكن العالم، منشغلٌ بأموره، أعمى عن تلك الصرخات التي تتجاوز حدود كل الجغرافيا. كل خطوة كانت تخطوها كانت محاولة للبقاء على قيد الحياة، ومحاولة للهروب من ذكرى لم يعد يمكن محوها.
لكل غزاوي قصة، ولكل قصة عيون شاهدة. عيون تروي حكايات الألم والمعاناة، عيون تسجل في طياتها تاريخاً من البؤس والظلم. هل سيأتي ذلك اليوم الذي تسمع فيه الصرخات الصامتة؟ أم انتقلت الإنسانية إلى مثواها الأخير؟