
تحفل منصات البث عبر الإنترنت، نتفليكس وأخواتها، بالأعمال الدراميّة والوثائقيّة (الإسرائيليّة) التي تروي قصصاً متخيلة وأخرى مستندة إلى وقائع حقيقيّة تشترك جميعها في تآمرها الفج والمزعج لفرض سرديّة عبرانية مأسطرة، ودائماً عن صراع بين الإسرائيلي «الخيّر والشجاع والعبقري» وأعدائه فلسطينيين وعرباً، وإيرانيين أحياناً في موقع النقيض: «الأشرار والجبناء والأنذال»!
وللحقيقة فإن إغراق هذه الأعمال بالأموال والكوادر وتقنيات التصوير المتقدمة لم يساعد أغلبها على تجاوز تلك الثنائيّة الساذجة، والتسطيح الممل، فبقيت مفتقدة للإبداع، وعديمة الإقناع، وفي نطاق استهلاك أقرب للمواد ذات الاستعمال لمرة واحدة، هذا إن استطاع المشاهد متابعتها للنهاية.
إن هذه الحالة القلقة للأعمال الوثائقيّة والدراميّة الإسرائيلية لا شكّ متأتية من وضع عدم اليقين، والتباس الحالة الوجوديّة التي تعاني منها «السايكولوجيا الجمعيّة» لشتات الشعوب، الذين تم تجميعهم من زوايا الأرض الأربع ليصبحوا إسرائيليين، لا سيّما وهم يرون بأم العين كيف يمارس جيش (الدّفاع) والأجهزة الأمنية الإسرائيلية أسوأ أعمال القهر والتنكيل بأصحاب الأرض الفلسطينيين، على نحو ربما لا يقل ظلماً عن الاضطهاد، الذي تعرّض له يهود أوروبا، وتحوّل إلى مبرر – لا يزال لا أخلاقياً ولا مقبولاً بحال – لتأسيس ما يوصف بأنه وطن (قوميّ) لهم، مع مطلق التناقض المنطقي الذي تحمله هذه العبارة الملتبسة.
وثائقي من نوع مغاير
هذه المقدّمة كانت ضروريّة لوضع الشريط الوثائقي العبري «الصندوق الأزرق – 83 دقيقة»، والذي عرضته القناة الرابعة في «بي بي سي»، ويتوفر للمشاهدة على موقعها، في الإطار الذي يستحقه، كعمل بصري نادر يتجرأ على تقديم صورة نقديّة، أقل أسطرة، وأقرب للواقع لجانب هام من الحكاية (الإسرائيلية)، إن جاز التعبير.
الوثائقي – الذي مع ذلك يبقى عملاً إسرائيلياً – وافقت عليه الأجهزة الرسميّة، الثقافية منها والأمنية، يقدّم قراءة جدليّة لسيرة يوسف فايتز، اليهودي الروسيّ، الذي هاجر إلى فلسطين عام 1910 وهو ما زال يافعاً ليصبح لاحقاً أحد الشخصيات المؤسسة للكيان العبري من خلال عمله في إدارة تملك العقارات والأراضي في الصندوق القومي اليهودي. فايتز، الذي جعلته الأسطورة الرسميّة بطل شراء الأراضي من أصحابها وتملكها لمصلحة الصندوق، و(الرجل الأخضر) الذي قاد عمليات تشجير (الصحراء) والأراضي البور في فلسطين التاريخيّة خلال عقود الثلاثينيات والأربعينيات، يتلقى من إحدى حفيداته (ميشيل فايتز، التي تروي قصة الفيلم) تقييماً مغايراً وصريحاً، بالاعتماد على وثائق رسميّة، وكذلك خمسة آلاف صفحة من يومياته غير المنشورة، والتي احتفظت بها العائلة، يذهب إلى تأكيد دوره المركزيّ في الاستيلاء على الأرض الفلسطينية، ومن ثمّ في عملية (الترانسفير) – أي التخلص من الفلسطينيين أصحاب هذه الأرض الأصليين، واستبدالهم بمهاجرين يهود من أوروبا الشرقية وأماكن أخرى
أخرى – وتالياً تنفيذ مناورة هائلة لمنع عودة الفلسطينيين الذين شردوا خلال حرب 1948 إلى بيوتهم تضمنت التخريب الممنهج للقرى والبلدات الفلسطينية، ونقل ملكيّة أراضي الدولة – التي اعترف بها النظام الدوّلي – إلى ملكية الصندوق القومي اليهودي، بوصفه مؤسسة خاصة دوليّة، بحيث لا يعود من الممكن عملياً تنفيذ قرار الأمم المتحدة رقم 194 والذي ينص على حق العودة لمن يرغب من المهجرين الفلسطينيين!
عن الدّعاية الفاسدة حول «أرض بلا شعب»
يتضمن «الصندوق الأزرق» تفاصيل غاية في الأهميّة عن الأساليب التي اتبعها المشروع الصهيوني لاقتلاع أصحاب الأرض وسرقتها منهم. على أن أبلغ ما يأتي به على الإطلاق فهو إسقاطه للكذبة التي روجتها الحركة الصهيونية بين اليهود وغير اليهود، طوال النصف الأوّل من القرن العشرين والتي تدّعي بوجود «أرض بلا شعب في فلسطين»، وستكون «لشعب بلا أرض»!
الجليّ وفق يوميات فايتز ذهابه للتأكيد أن الأرض لم تكن صحراء جرداء خالية من البشر، بل كانت مأهولة بالسكان المحليين الذين كانوا يزرعونها ويعتمدون عليها كمصدر أساس لمعيشتهم. ورغم شعوره بالألم لاضطراره للقيام بمهمة طرد الفلسطينيين من الأراضي التي يعتاشون منها، فهو يجد أن الأولوية هي لشعبه – «هكذا تسير الأمور – شعبي يأتي أولا» – أي أولئك اليهود المهاجرين بمحض إرادتهم من بلادهم التي عاشوا فيها جيلا بعد جيل قروناً عديدة. ويبدو من «الصندوق الأزرق» أن الأراضي التي نجح اليهود في شرائها بمقابل، كان أغلبها لإقطاعيين (عثمانيين) غير فلسطينيين مقيمين في مدن بعيدة، مثل حلب والإسكندرية وبيروت والقاهرة ودمشق وعمان، وأن الفلاحين الذين كانوا يزرعون تلك الأراضي مقابل عائد سنوي للمالكين وجدوا أنفسهم بلا مقدمات مرحلين بقوة القانون والسلطة (البريطانية – أيّام الانتداب). وحتى الأفندية وملاك الأراضي المحليين الذين تجرأوا على البيع للصندوق القومي اليهودي، فهم كانوا يشعرون بتأنيب الضمير – وفق فايتز دائماً – وتعرّضوا لعداء مواطنيهم الفلسطينيين، بل وتمت تصفية بعضهم جسدياً بوصفهم خونة.
«الصندوق الأزرق»: تبرّع لتقتل فلسطيني وتسلب أرضه
يستعير الوثائقي عنوانه من الصندوق المعدني الصغير، الذي كان يطلى بألوان العلم العبري الأزرق والأبيض، ويستخدم لجمع التبرعات حول العالم لصالح الصندوق القومي اليهودي، الذي يتولى استخدام تلك الأموال في شراء أراض لليهود في فلسطين. ومن المعروف أن أموالاً طائلة جمعت من اليهود وغير اليهود في معظم دول العالم لهذا الغرض، لا سيّما من الأثرياء اليهود في أمريكا الشمالية وأوروبا الغربيّة.
ومع أن الوقائع تشير إلى أن جزءاً كبيراً من تلك الأموال اختلسه القائمون على الصندوق، إلا أن ما وصل منها بالفعل إلى الأرض المحتلة استخدم في عمليّة أقل ما يقال فيها إنّها لا أخلاقية – وإن كانت تقنياً قانونيّة – وتسببت في تشريد مئات الآلاف من الفلسطينيين من الأراضي التي عاشوا وعملوا فيها دائماً، وقادت في المحصلة إلى قتلهم وطردهم من بلادهم واستبدالهم بمهاجرين أجانب.
إنجاز تقنيّ ومهنيّ مبهر
الوثائقي الناطق بالعبرية مع ترجمة باللغة الإنكليزيّة، يرفق السرد بمجموعة كثيفة من المواد الأرشيفيّة صوراً ومقاطع فيديو بالأبيض والأسود لجدّها يوسف أثناء المراحل المختلفة مع غرافيكس وخرائط ممتازة توضح المناطق والأرقام، دون إرهاق للمشاهد، وتنجع صانعة الفيلم علاوة على ذلك في خلق مستوى آخر للطرح من خلال موازاة الاستنتاجات التي توصلت إليها خلال بحثها بطرح الأسئلة واستدراج التعليقات من أبناء عمومتها ووالدها وأعمامها. وتظهر مناقشات أفراد العائلة أمام الكاميرا – وفي بعض الحالات، التبريرات التي يقدمها الجيل الثاني بالتحديد للجرائم التي ارتكبت – اختلافات ملحوظة في مقاربة التاريخ الدّموي للدولة العبريّة بين الأجيال والجنسين، حيث يبدو الجيل الثالث أقرب نسبياً لتفهم تاريخ عذابات الفلسطينيين مقارنة بجيل آبائهم.
ومع كل ذلك، فإن العمل رغم شجاعته للاختلاف عن الرواية الرسميّة المؤسسة للكيان العبري، وحسن إدارته للوقت والمواد إلا أنّه يعاني من بعض العيوب الأساسيّة في الطرح ومنها تصوير الفلسطينيين على أنهم غالباً بدائيون وجهلة وضحايا – وهو أمر غير صحيح تاريخياً – كما ويدفع إلى الاعتقاد أن استيلاء اليهود على الأراضي الفلسطينية كان، ولو على صعيد الشكل قانونياً بالشراء أو أنها كانت نتاج هروب الفلسطينيين الجماعي بسبب الحرب، مع تجاهل تام لعمليات التطهير العرقي والمذابح، التي ارتكبتها القوات اليهوديّة ضمن عمليّة ممنهجة لدفع الناجين إلى المغادرة. على أنّ العمل، إذا قُرِئ نقدياً، فيستحق المشاهدة وكثيراً من التأمل في مأساة شعب فلسطين، والمحاولات البائسة للبعض في الجانب العربيّ بقبول الأمر الواقع والتخلي عن حق العودة، أو المناداة بدولة واحدة تجمع القاتل بالقتيل، والمستوطن بالمقتلع.