في اليوم الثاني من طريق الحرير الذي يروي حكايته في 10 أيام متواصلة “مهرجان الشارقة القرائي للطفل”، يتواصل مسير الرحّالة، لا أحد على امتداد هذا الطريق سوى نجوم تتلألأ في السماء، وقافلة تسير منهكة، الرحالة كلّهم يدّبون على الأرض كخطوط النمل وهي تبحث عن وجهة بعيدة، الجمال تثغي، واللهاث يتصاعد من أنوفها، مرّ شهاب اخترق عنان السماء وأضاء لوهلة أفق الطريق، بقي نهار وليلة على الوصول إلى النهر الأصفر، هناك تصبّ المياه العكِرة، غدير من الرمال المسحوقة مع الماء يكسر إيقاع المكان، يحمل النهر تسمية صينية “هوانغ”، فهو ثاني أطول نهر في الصين، وسادسها في العالم، لقب باسم “يوغونا الصين” بسبب الفيضانات المدمرة التي يسببها النهر.
بعد أن تصل القوافل إلى هذا النهر سيكون هذا آخر عهدهم بالماء، حتى الوصول إلى مشارف صحارى “جوبي” المترامية الأطراف، التي يصل امتدادها إلى مسافة ألف وخمسمئة كيلو متر، وعرضها من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال ثمانمئة كيلو متر لتصل مساحتها الاجمالية إلى مليون ومائتين وخمسة وتسعين كيلو متراً مربعاً، أي أن ما سيواجه الرحالة هو مدّ من الرمال الذهبية النقية.
وبعد أن وصل الرحالة إلى النهر واكتشفوا ضفافه المليئة بالحكايات والأحراش والبراري التي تتزركش بألوان كثيفة قرروا أن يريحوا جمالهم وحمالهم ويبحثوا عن راحة تحت فيء الأشجار، وبالفعل اراحوا قوافلهم وأخذوا قسطاً من الراحة، وبعد أن اكتفى الجميع صاح منادٍ بالرحيل، وهمّ الجميع وبدأت الطرق تتوالى والصحراء تقترب، بقي مسير يوم واحد لبلوغ الرمال، تلك الصحراء المقبلون عليها قاسية والحرارة بها تغلي في النهار، وتكاد تجمّد الشجر ليلاً، سيعبرون الصحراء على امتداد رحلة ستروي لهم الكثير من الحكايات حتى وصولهم إلى غايتهم.
ها هي الرمال تقترب بلسعات على وجوه الجمال والرحالة جميعاً، سرعان ما يبدأون في ربط الأغطية القماشية على وجوههم وأعينهم، لا مجال هنا للتراجع، الهواء كثيف يحمل أطناناً من الرمال على أجنحته، يطير بها صوبهم، وهم يتقدمون بصعوبة، يزحفون زحفاً كأنهم يطاردون وهماً، تتباطأ حركتهم، تسير فوقهم الشمس كخيط من النحل النشيط، أشعتها ما زالت طرية، لم ينتصف النهار بعد، كلّ شيء من حولهم يرتبط بوحدة اللون كأنهم في محيط أزرق، كأنهم يسبحون في سراب لا نهائيّ، رحلة بدأت كي لا تنتهي يقول واحدهم: ماذا بعد؟! إلى أين الآن؟! يصرخ آخر: كيفّ…! ولماذا؟!! أين آخر هذه الصحراء؟!، صمت، ثغاء الجمال يكسر إيقاع الهدوء، والريح مازالت تدق نواقيس الخطر.
هبط الليل، الرحالة يسيرون بشكل متواصل انخفضت درجات الحرارة، بات الهواء طرياً، نفّض الرحالة الغبار عن ملابسهم ورحالهم، سقوا جمالهم، شربوا، أكلوا، منهم من رمى بجسده على الرمال الباردة التي سرعان ما تحولت إلى وسادة من زبد، خليط من المشاعر، هذا يضحك، وآخر يروي حكاية لا شأن لها بالرحلة، يحاولون سريعاً أن يجمعوا قواهم لاستكمال المسير، هدأ الليل، دقّت القافلة أقدامها في الرمل وانطلقت صوب تورفان، مدينة الشمّام والفواكه النادرة، ووادي العنب والموت.
يصف العالم الصيني تشانغ هينغ (139-78 ميلادي) مدينة شيان بقوله: ممرات طويلة، وشرفات أرضية واسعة، وأروقة، وصالات متصلة تأخذ شكل السحب، ساحات خارجية مسوّرة غريبة الشكل، وغير عادية، ألف بوابة، وعشرة آلاف باب، مداخل مزدوجة، ومداخل معزولة، متقاطعة ومتداخلة.