تلك الخطوة فتحت الباب واسعًا أمام تساؤلات عدة بشأن استراتيجية واشنطن التي تشهد متغيرات وتحولات جذرية -كما يراها مراقبون- في منطقة الشرق الأوسط، وبخاصة إفريقيا في ظل تمدد النفوذ الروسي وقبله الصيني.

والقرن الإفريقي منطقة استراتيجية تشمل 4 دول، هي الصومال وجيبوتي وإثيوبيا وإريتريا، وتأسس مفهومه من اعتبارات تاريخية، تجلت في صراعات ممتدة تاريخيا وإثنية أو قومية وثقافية.

وتقدر مساحته بحوالي ثلاثة أرباع مليون ميل مربع، وهو منطقة حيوية للتجارة الدولية عبر البحر الأحمر وقناة السويس، وأكثر المناطق نزاعا على النفوذ بين القوى العظمى والإقليمية المعنية.

انحسار التواجد الأميركي

وتلك المنطقة تكتسب أهميتها الاستراتيجية والعسكرية باعتبارها مجاورة للمحيط الهندي، كما تعد نقطة اتصال مع شبه الجزيرة العربية الغنية بالنفط، إضافة لوجود مضيق باب المندب الممر المهم لناقلات النفط والغاز والبضائع والأسلحة، ما جعلها محطة استراتيجية تتكالب عليها القوى الدولية.

ووفقا لتقديرات تقارير عسكرية تمتلك واشنطن أكبر قاعدة عسكرية بالقرن الإفريقي، وتحديدا في جيبوتي، إذ يوجد بها أكثر من 4 آلاف فرد، كما تمتلك قواعد عسكرية سريّة في دول القرن، حيث توجد في كينيا قاعدتان بحريتان، وقاعدة جوية في إثيوبيا.

ولها أيضا القيادة العسكرية الأميركية “أفريكوم”، حيث زاد عدد جنودها إلى 4 آلاف جندي عام 2017، يتمركزون في جيبوتي.

وهنا يقول منسّق أبحاث إفريقيا بمعهد الدراسات المستقبلية ببيروت محمد عبد الكريم أحمد إنه من الصعب توقع تراجع أميركي ملموس بمنطقة القرن الإفريقي بشكل عام، وبالمسألة الإثيوبية خاصة”.

ويدلل عبد الكريم في تصريحاته لـ”سكاي نيوز عربية” على ذلك بقوله: “هذا التراجع لم يحدث إذا أخذنا في اعتبارنا تكثيف واشنطن حضورها العسكري في الإقليم في جيبوتي وبالتعاون مع أطراف إقليمية، وهو تمثل في المناورات العسكرية الأخيرة جنوبي البحر الأحمر”.

واعتبر أنه “يمكن النظر لقرار استقالة المبعوث الأميركي جليتمان فيلتمان، بأنها إعادة ترتيب للثقة بين الولايات المتحدة وإثيوبيا لوجود تحفظات شخصية من رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، تجاه فيلتمان”.

ويؤكد أن استقالة المبعوث الأميركي” يمكن وصفها بأنها “جاءت تلبية لمطلب إثيوبي أو ترضية لآبي أحمد، الذي رفض مقابلة فيلتمان أكثر من مرة، بعد تطبيق واشنطن قرار حرمان أديس أبابا من امتيازات قانون الفرص والنمو الإفريقي”.

أما الباحثة السودانية منى عبدالفتاح، المتخصصة في الدراسات الأفروآسيوية والصينية، فتقول إن الرئيس الأميركي جو بايدن، ” مرغم على الاهتمام بالقرن الإفريقي لكن بتحفظ، جراء ما تشهده المنطقة من تمدد صيني وروسي”.

وتضيف في تصريحاتها لـ”سكاي نيوز عربية” أنه “ربما يبدو الاهتمام الأميركي مشتتًا بعض الشيء، بعد انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان وتركيزها الوشيك على شرق آسيا، ومسارحها المفتوحة على بحر الصين الجنوبي، وغيرها”.

وأكدت أن “بايدن يعتزم عقد قمة أميركية إفريقية ما يدل على أن الاهتمام الأميركي سيزيد بالمنطقة ولم ينحسر، خصوصًا القلق الذي خلقته الأوضاع في إقليم تيغراي وسد النهضة بإثيوبيا وعدم الاستقرار بالسودان، وفق تقدير الباحثة السودانية.

التمدد الصيني

وتصطدم الولايات المتحدة بالتمدد الصيني في تلك المنطقة، فالبتزامن مع استقالة المبعوث الأميركي، أعلنت الصين، الخميس الماضي، تعيين مبعوث خاص لها لمنطقة القرن الإفريقي، فيما يجري حاليا وزير الخارجية الصيني وانغ يي، جولة في المنطقة تتضمن إريتريا وكينيا وجزر القمر والمالديف وسريلانكا.

وهنا يرى الباحث محمد عبدالكريم أحمد، أن المبعوث الصيني الجديد ستكون مهمته الأولى هي تنسيق الوساطة مع كينيا في الأزمة الإثيوبية، وهي وساطة أيضا تحظى بدعم أميركي كبير.

وبحسب تعبيره، فإن “التصور الأقرب للصحة هو تضافر الجهود الدولية بما فيها الأميركية والصينية لحل الأزمة الإثيوبية لخطورة انفلاتها وتداعياتها الخطيرة للغاية التي تتجاوز الإقليم إلى أوروبا حال حدوث أزمات الهجرة غير الشرعية”.

أما الباحثة منى عبدالفتاح، فأكدت أن “الصين تتعطش للموارد الطبيعية الموجودة بدول القرن الإفريقي، ولكن عمومًا سيكون تمدد القوتين الصينية والروسية على حساب الوجود الأميركي الذي بات محدودًا، بعد انصراف واشنطن في عهد ترامب عن إفريقيا”.

وتضيف: “لن تكون أميركا بعيدة بعد اليوم، وسيكون تنافسها مع الصين تحديدًا لمحاصرة تمددها في المنطقة وإفريقيا”.

والصين هي أكبر شريك تجاري لإفريقيا، وبلغت قيمة التجارة المباشرة بين الطرفين في 2019 أكثر من 200 مليار دولار، وفقا للأرقام الصينية الرسمية.

النفوذ الروسي

منذ عام 2015 زادت روسيا من وجهتها نحو إفريقيا، فبالإضافة إلى الاتفاقيات الاقتصادية والعسكرية التي وصلت لنحو 21 اتفاقية عسكرية مع عدد من دول القارة السمراء، تعتزم روسيا إقامة قواعد عسكرية في ست دول إفريقية بينها السودان وإريتريا وموزمبيق ومدغشقر وإفريقيا الوسطى.

وبحسب مراقبين، فإن من ضمن أهداف موسكو في إفريقيا، ما أعلنه الرئيس الروسي فلاديمير بوتن عن تحقيق استراتيجية “التحوّل” باتجاه آسيا وإفريقيا عقب فرض العقوبات الغربية على بلاده بعد ضمّها شبه جزيرة القرم عام 2014.

كما أن موسكو وجدت فرصة مواتية لمزاحمة الدور الأميركي في إفريقيا، الذي انحصر في المجال العسكري، ما دفع روسيا لتوقيع 21 اتفاقية عسكرية.

وإزاء انسحاب واشنطن التدريجي من دول القارة وتحوّل التعاون الصيني الإفريقي من مشاريع التنمية إلى مواقع استراتيجية تضمن قيام مشروع “طريق وحزام الحرير” الصيني، فإن روسيا ربما وجدت الساحة مناسبةً لتوجهها، خصوصا مع الانسحاب الجزئي للقوى الدولية، بحسب الباحثة السودانية مني عبدالفتاح.

وفي هذا الجانب، تؤكد عبدالفتاح أنه بالنسبة لروسيا فتحركها سيكون في إطار مصالحها من ناحية، وفي إطار دعم وجود الصين ضد الوجود الأميركي من زاوية أخرى.

وأضافت: “روسيا والصين ستدعمان حكومات بعض الدول ضد القرارات والعقوبات الأميركية، وقد تستخدمان حق الفيتو بمجلس الأمن ضد القرارات الأميركية إزاء الدول الإفريقية، كما ستعزز تواجدها بتوقيع اتفاقيات اقتصادية وعسكرية وتعاون كامل”.

وبحسب الباحثة السودانية، فإن منطقة القرن الإفريقي ستكون مسرحا للمنافسة القديمة المتجددة بين القوى الدولية”، مؤكدة أنه “لن تكون هناك مواجهة عسكرية على النفوذ، ولن يكون هناك رابح أو خاسر بينها، وربما تكون أشبه بالحرب الباردة، وسيمتد أمدها”.

ونشطت روسيا في التعاون التجاري مع دول إفريقيا، حيث فاقت قيمته الـ20 مليار دولار عام 2018.

واستثمرت الصين في الأعوام الأخيرة مبالغ طائلة في القارة الإفريقية، ولا سيما في البنى التحتية وفي المواد الأولية، خصوصا الذهب والخشب.

المصدر