قد يكون بلوغ سن التقاعد هو الوقت الذي ينتظره معظم الموظفين من أجل ترك العمل إلى الأبد، وتخصيص أغلب أوقاتهم للاسترخاء والاستمتاع بحياة خالية من المسؤوليات الوظيفية التي تثقل كاهلهم في التفكير.
وبالنسبة للكثيرين، يعد التقاعد أمراً طبيعياً بعد مسار مهني حافل وطويل، فالوصول إلى هذه المرحلة يأتي كتتويج لمسيرة عمل قد تكون استمرت لأكثر من 35 عاماً.
ولكن التعاطي مع فكرة التقاعد بات محل نقاش في الآونة الأخيرة، ففي وقت يعتبرها الموظفون المرحلة التي سينعمون بها بالراحة، يحذر الكثير من الخبراء من أن الصورة الوردية التي تم خلقها عن مرحلة التقاعد، هي غير حقيقية بتاتاً، فالحياة بعد التوقف عن العمل للأبد، لن تكون بالبساطة التي تم وصفها لنا، وهذا ما دفع الكثير من الخبراء للتحذير من خطورة التوقف عن العمل كلياً، مع التشديد على ضرورة أن يكون هناك خيارٌ يتيح لمن يريد بتأخير تقاعده، مع مراعاة التغيرات الجسدية والنفسية التي يمر بها الإنسان في أعمار معيّنة.
من أين أتت فكرة التقاعد؟
طُرحت فكرة الإحالة إلى التقاعد لأول مرة في عام 1881، بناءً على طلب المستشار الألماني أوتو فون بسمارك، وفي عام 1889 أصبحت ألمانيا أول دولة في العالم تتبنى برنامج التأمين الاجتماعي للشيخوخة، وذلك كحل لخلق فرص عمل للشباب العاطلين عن العمل، عبر دفع المال لمَن هم فوق السبعين لكي يتقاعدوا.
وقديماً لم يكن هناك من عمر معيّن للتقاعد، حيث كان الأفراد يستمرون في العمل ما داموا قادرين على ذلك، ولا شيء يوقفهم عن ذلك سوى المرض أو الموت، إلا أن الدول حول العالم قامت تباعاً بتبني نظام التقاعد الذي أطلقته ألمانيا، والذي بات مفهموماً سائداً في عالم الأعمال.
وحالياً يختلف عمر الإحالة إلى التقاعد من دولة إلى أخرى، ولكن سنّ التقاعد يكون في الأغلب مع الإقتراب من العقد السادس من العمر.
تمنح الإنسان شيئاً ليستيقظ من أجله
تحذير الخبراء من فكرة التقاعد له عدة أوجه ولا يرتبط فقط بالناحية المادية، بل بقدرة الوظيفة على منح الإنسان شيئاً ليستيقظ من أجله في الصباح، وهذا تحديداً ما أظهرته نتائج دراسة سابقة أجراها الباحث في “معهد أبحاث الاقتصاد الصناعي” غابرييل هيلر- سالغرين، تحت عنوان “إعمل لفترة أطول تعيش بصحة أفضل”.
فقد أظهرت الدراسة أن صحة الإنسان من الممكن أن تتحسن في بداية تقاعده، ثم بعد فترة، تبدأ في التدهور بسبب انخفاض النشاط البدني والتفاعل الاجتماعي، وكلما زاد عدد السنوات التي يقضيها الفرد في التقاعد، كلما زادت الآثار السلبية على صحته.
وعلى سبيل المثال، أظهرت الدراسة أن التقاعد، يقلل من احتمالية التمتع بصحة ذاتية “جيدة جداً” أو “ممتازة” بنحو 40 بالمئة، كما تبين أن التقاعد يزيد من احتمالية المعاناة من الاكتئاب السريري بنحو 40 بالمئة، حيث خلصت الدراسة إلى أنه ينبغي على الحكومات إزالة العوائق التي تحول دون إتاحة خيار “التقاعد في وقت لاحق” للموظفين.
الموازنة بين الإيجابيات والسلبيات
ويقول الاستشاري المالي والمصرفي، غسان أبو عضل، في حديث لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إنه عند التفكير في أفضل الأعمار للتقاعد، من المهم الموازنة بين الإيجابيات والسلبيات المتعلقة بهذه الموضوع، إذ يجب تقييم جميع العوامل المتعلقة بتوقيت هذه الخطوة مثل العوامل الاقتصادية، والظروف الاجتماعية، والحالة الصحية للشخص، لافتاً إلى أن “مرحلة التقاعد” قد تبدو نسخة جميلة من الحياة، ولكنها قد تكون عكس ذلك، إذ ثبت أن ترك العمل في غير أوانه، قد يؤدي إلى إنقلاب الأمور رأساً على عقب من الناحية الصحية، إضافة إلى تسببه بأعباء مالية منهكة.
3 أسباب لعدم التقاعد
ويرى أبو عضل أن هناك أشخاصاً كثر سعداء بقضاء سنوات تقاعدهم، ولكن هناك أيضاً العديد من المتقاعدين الذين يشعرون بالملل السريع من الحياة الجديدة، وذلك للأسباب الثلاثة التالية:
معنى للحياة
العمل يعطي معنى للحياة بالرغم من كل متاعبه، فافتقاد الأفراد بيئة العمل المليئة بالمسؤوليات، واتخاذ القرارات وتقاسم الأفكار قد يؤدي للإصابة بالاكتئاب، حيث أن الجلوس في المنزل دون أي مهام، قد يدفع الفرد للشعور بفقدانه لدوره في المجتمع، وأنه شخص غير مهم، ما يصيبه بالحزن والتوتر، ليبدأ بعدها في تعداد خسارات عمره، ما يغذي شعوره باقتراب النهاية.
التواصل الاجتماعي
إن التخطيط للتقاعد لا يشمل الحسابات المالية فقط، لكنه يشمل أيضاً الدائرة الاجتماعية المحيطة، ولذلك يجب على المتقاعدين التفكير ملياً بمن سيشاركهم سنوات تقاعدهم، فقد تكون المتعة التي يحصل عليها البعض من العمل مع زملائهم وعملائهم، سبباً وجيهاً آخراً لعدم التقاعد، خاصة إذا كانوا يعملون في وظيفة يحبونها تلبي كل حاجاتهم برفقة زملاء، باتوا بمثابة عائلة، فقضاء الوقت والتحدث مع زملاء العمل، يبعد شبح فقدان التواصل الاجتماعي الذي قد تسببه مرحلة التقاعد.
المرونة المالية
مستوى المعيشة المتوقع بعد التقاعد، يمكن أن يكون سبباً لمواصلة العمل، فالمرونة المالية التي توفرها الوظيفة، تساعد في مواجهة أي انتكاسة مالية أو صحية، يمكن أن تقضي على جزء كبير من الأصول المالية، وعلى سبيل المثال، فإن تشخيص أي مرض خطير، يمكن أن يستهلك المدخرات التقاعدية لأي فرد، ولذلك تتمثل إحدى مزايا تأخير التقاعد، في زيادة مزايا الضمان الاجتماعي والصحي، وفي الوقت نفسه يتيح التقاعد المتأخر إمكانية إنفاق الأموال دون الشعور بالقلق.
من جهتها تقول الكاتبة في الشؤون الاقتصادية رنى سعرتي، في حديث لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إن تأخير سن التقاعد، يجب أن يصبح مسألة اختيار شخصي لبعض الناس، ففي حين قد يكون سن التقاعد هو الوقت الذي ينتظره عدد كبير من الأشخاص، إلا أن هذا الوضع لا ينطبق على الجميع، فهناك أشخاص غير راضين عن التقاعد، ويرغبون في العمل طالما أنهم يتمتعون بصحة جيدة.
تغيير مفهوم التقاعد في العالم
وشددت سعرتي على أن استراتيجية تأخير سن التقاعد، هي بالنسبة للكثيرين خطوة ضرورية تؤمن لهم الدعم المهني والمادي والمعنوي، خصوصاً للذين لم يتمكنوا من إدخار ما يؤمّن لهم تقاعداً مريحاً، وبالتالي يجب تغيير مفهوم التقاعد في العالم، والاستفادة من الخبرات المهنية التي يمتلكها هؤلاء الأشخاص، (باستثناء مهن تتطلب تركيزاً كبيراً كالطب والشؤون العسكرية والدفاع) وذلك عبر تخصيص دوامات عمل، تكون مختلفة عن دوامات عمل الموظفين صغار السن، إذ يمكن اعتماد سياسة تقضي بالعمل “نصف دوام”، لمن بلغوا سن التقاعد، ما يتيح لهؤلاء الاستمرار بالانخراط في بيئة العمل، وفي الوقت عينه التمتع بقسط أكبر من الراحة.
خيبة أمل
وترى سعرتي أن قسماً كبيراً من الأشخاص، يضعون أحلاماً تفوق قدراتهم، بالنسبة لواقع الحياة ما بعد التقاعد، ما يؤدي إلى إصابتهم بخيبة أمل، بعد مرور بعض الوقت على حياتهم الجديدة، في حين أن تأخير التقاعد، قد يعطي الإنسان رغبة في الحياة واستمرارها، ويحافظ له على الاستقرار المالي والاجتماعي.