
«أنا أقاطع إذاً أنا مذيع» وفي رواية أخرى «أنا أتحفظ إذاً أنا مذيع»!
فحسنا أن من استقبل اتصال مصطفى البرغوثي، بعد مداخلة المحلل الإسرائيلي الموتور، كان هو المذيع محمد كريشان، فاستمع ولم يتحفظ على نعوت خلعها على هذا الأرعن، بأنه منحط، وعنصري، ويدعو للتطهير العرقي. وكان بذلك إنما يصفه وليس يسبه، ولو كان أحد غير كريشان، فربما أشبعنا تحفظاً ومقاطعة، ادعاء للمهنية، وللحياد المفترض، ولا أعرف من وراء دعوة الإعلامي للحياد، وكأن المطلوب لاستيفاء شرط العمل الصحافي أن يكون طالب الوظيفة محايداً بين الحق والباطل، والشعب والمحتل، و»يد تحمل سيفاً كان لك، بيد سيفها أثقلك»! كما قال أمل دنقل بتصرف!
كان الأرعن ابن أبيه، يتحدث قبل البرغوثي، في ذات الفقرة، التي يقدمها كريشان، وإذا به يصف حركة المقاومة (حماس) بأنها «داعش» وأنهم (أي حماس) اغتصبوا النساء وحرقوهن، وقطعوا رؤوس الأطفال، وعليه فإنه يطالب مصر باستقبال أهل غزة، حتى يمكن للجيش الإسرائيلي المنهزم، والذي تبدى ضعفه للناظرين، أن يستأصلهم!
لم يكن هذا العنصري محللاً سياسياً ولا يجوز أن يمنح هذه الصفة، بأي حال من الأحوال، إلا اذا أصبح التحليل السياسي، حيث أصبح مهنة من لا مهنة له، وعمل المتقاعدين من الوظيفة العمومية؛ ذلك بأنه لم يكن أكثر من بوق، والوصف والدعوة بالتهجير، أطلقتها الحكومة الإسرائيلية من قبل، وفي مداخلة سابقة على قناة «الجزيرة» فإن المتحدث باسم جيش الدفاع الإسرائيلي أفيخاي أدرعي، قال الوصف «حماس داعش» وأطلق دعوة التهجير، ويبدو أن القوم يعتبرون الفرصة مواتية للانتقال لمرحلة ما وصف سابقاً بصفقة القرن، بإقامة دولة فلسطينية في سيناء، وهي الصفقة التي سمعنا بها لأول مرة، على لسان عبد الفتاح السيسي، في مقابلة مع الرئيس الأمريكي السابق ترامب، عندما قال إنه جاهز لها، وكان طبيعيا أن يدفع الفضول الجميع للبحث عن معناها، إلى أن توصلوا الى محدداتها، وقد فشلت لأن الشعب الفلسطيني لم يكن ليوافق عليها!
ما جاء في مذكرات النقراشي
أقرأ هذه الأيام مذكرات رئيس وزراء مصر في الفترة من عام 1945 الى عام 1948، ومن خلالها نقف على أن فكرة إقامة دولة فلسطينية خارج أرض فلسطين كانت معلنة، وجاء في هذه المذكرات الصادرة سنة 2019 عن دار الكتب والوثائق القومية، إنه في 13 أغسطس/آب 1948 بعد نكبة فلسطين تم لقاء الوسيط الدولي لفلسطين الكونت برنادوت مع النقراشي، وكان رئيس وزراء الأردن السابق توفيق أبو الهدى قد أدلى بحديث لجريدة «المصري» ذكر فيه أن إبراهيم عبد الهادي باشا والنقراشي باشا اتفقا معه على ضم شرق فلسطين وغربها إلى مملكة شرق الأردن وضم جنوبها الى مصر، فاستنكر النقراشي هذا. وتناولت المذكرات لقاء السفير الأمريكي «مستر تاك» وبعض أعضاء الكونغرس والصحافيين الأمريكان، طرحت فيه وجهة نظر أمريكية تتمثل في إمكانية قيام أمريكا بإقامة نظام ري على دجلة والفرات يجعل أراضي كثيرة صالحة للاستغلال فينتقل اليها عرب فلسطين فيزدهر العراق ويطمئن اليهود في فلسطين!
فرد عليه النقراشي أن هذا أمر خطير جداً، فلم يسبق أن نقل شعب برمته بمثل هذه الطريقة الغريبة من بلده الأصلية إلى بلاد أخرى!
وهكذا، فالدعوة الى إقامة دولة فلسطينية خارج التراب الوطني، ليست جديدة، لكنها تبحث عن الفرصة، وقد وجدها القوم سانحة الآن، وعليه تماهى رأي المحلل السياسي المزعوم، مع رأي جيش الدفاع الذي جاء على لسان المتحدث باسمه «أفيخاي أدرعي» فإذا أحيط بهم قالوا التهجير لفترة مؤقتة ريثما الانتهاء من القضاء المبرم على حماس، أو حماس داعش، مع ما جاء في «الإسكريبت» الموزع على الإسرائيليين عسكريين ومنتحلي صفة المحلليين مع افتقادهم مسوغات هذه الوظيفة!
رواية قطع الرؤوس!
ولم يتركه كريشان يمرر رسالته فأخبره أن حديث قطع رؤوس الأطفال رواية إسرائيلية لدرجة أن البيت الأبيض، بعد أن تبناها تراجع عنها، فلم يقم عليها دليل واحد، وأنه إذا كانت حماس هي داعش، فإن الجيش الإسرائيلي هو الأجدر بالصفة «داعش» بناء على صور الأطفال الآتية من غزة!
وقال المحلل المزعوم إن الجيش الإسرائيلي وجه نداء قبل القصف للفلسطينيين بأن يغادروا. ليسأله كريشان: يغادروا إلى أين؟: فيجيب: الى مصر. فيسأله كريشان أي أن الفرق بين حماس داعش، والجيش الإسرائيلي داعش هو في هذا النداء، فلماذا يذهبون الى مصر، وهم في بلدهم وعلى أرضهم!؟
يقدم المحلل المزعوم رجلاً ويؤخر أخرى، فتارة يقول إن دول الجوار، ومن بينها مصر عليها أن تستقبل الفلسطينيين ليعيشوا على أراضيها، وتارة يقول إن الاستقبال لفترة مؤقتة!
فنحن أمام حالة إقدام وإدبار، والهدف هو إقامة دولة فلسطين خارج أرض فلسطين، وقد رأينا أن هذه الدعوة لها أصل تاريخي، على النحو الذي نقلناه من مذكرات النقراشي باشا.
عرض المحلل المزعوم أن تطلب قناة «الجزيرة» من مصر أن تستقبل الفلسطينيين، وقال له كريشان «الجزيرة» لا تطلب اطلبوا أنتم، بعد أن قال له إن «الجزيرة» تدافع عن داعش فلسطين، المسماة حماس، ليمثل هذا افصاحاً عن أزمة القوم مع «الجزيرة» بما يتماشى مع ما نشر من أن هيئة البث الإسرائيلية تبحث قطع ارسالها، وهو أمر كاشف عن أن هذه الفضائية كشفت عن المحتل غطاءه، حيث تثبت الأحداث الكبرى في كل مرة، أنها مدفعية ثقيلة في مواجهة العدو، فهل من مبارز؟!
تأثير «الجزيرة» يعززه أنه في اللحظة التي يشاهدها فيها قرابة الربع مليون مشاهد، فإن مشاهدي «العربية» 11 مليوناً، بينما يزيد عليهم قليلاً عدد مشاهدي «بي بي سي» و»الحرة» الأمريكية يشاهدها (239) شخصاً، وقناة «مصر الإخبارية» مع كل الدعاية لها فإن مشاهديها هم (242) فرداً، وهي أفضل حالاً من قناة إخبارية أخرى تملكها السلطة في مصر هي «اكسترا نيوز» التي تم ضبط إثنين فقط متلبسين بمشاهدتها في ذات اللحظة!
وهي مشاهدات لمنصة واحدة هي «يوتيوب» تصلح فقط للوقوف على الفرق الهائل بين «الجزيرة» وغيرها من فضائيات ناطقة بلغة الضاد، وهو فرق «السما من العمى» لأن أعداد المشاهدين لـ»الجزيرة» على منصة أخرى هي موقع «الجزيرة نت» تجاوز المليون، ناهيك عن الذين يرابطون أمام الشاشة، ولا توجد وسيلة إحصاء لهم!
القناة العربية الأولى
وكأن هذه الأحداث تأتي لتؤكد موقع «الجزيرة» من الإعراب، وتطمئن الناس أنها لا تزال القناة العربية الأولى، من كثرة القنوات التي صدرت لتنافسها على الصدارة، ليصبح من الظلم لها وللقنوات الأخرى عقد هذه المقارنات، وإن كانت المقارنة تصلح بين «العربية» و»بي بي سي» أو بين «الحرة» و«القاهرة الإخبارية» التي تنطلق من عاصمة الخبر، كما تقول الدعاية لها، وكما أن «الجزيرة» خارج المنافسة، فكذلك «اكسترا نيوز» التي تم ضبط شخصين اثنين متلبسين بمشاهدتها، وددت لو توصلت اليهما لكي أسألهما ماذا وجدا فيها، فقد يكونا امتداداً للمصري القديم، الذي كان يكفر عن ذنبه بالجلوس في شمس الصيف الحارقة!
ما علينا، بتفوق «الجزيرة» والتزامها بالمعايير المهنية وانحيازها للحقيقة كانت سبباً في هذا الغضب الإسرائيلي، والذي عبر عنه المحلل المزعوم، وهو يتحرش بها، ويعاملها، كما لو كانت دولة لها علم ونشيد، فيطلب منها أن تتدخل لدى النظام المصري لاستقبال اللاجئين الفلسطينيين، مع أن جنرال القاهرة أقرب إليهم من حبل الوريد!
لا أعرف مدى امتلاك دولة المحلل المزعوم لإمكانية حجب قناة «الجزيرة» في الأرض المحتلة، وقد زرت ماليزيا منذ تسع سنوات، واكتشفت أن الجزيرة محجوبة هناك، لكن ما أعرفه أنها لو منعت هناك فلن تمنع رسالتها من أن تصل لكل العالم، حيث تنقل إليه الحقيقة في وقت اصطف فيه الإعلام الغربي، وقد طلق المهنية لنشر الأكاذيب والدعايات المغرضة انحيازا لإسرائيل، وكأنه بنيان مرصوص!
وكما فشلت الدعوة لإقامة الدولة الفلسطينية خارج التراب الفلسطيني من قبل ستفشل الآن!