في مواجهة حرب الإبادة التي يشنها الجيش الإسرائيلي على الفلسطينيين في قطاع غزة، ومع انحياز الحكومات الغربيّة السافر إلى جانب الدّولة العبرية في عدوانها الوحشي، ووسط تخاذل رسميّ عربي وإسلامي مريب، وجد كثير من الناس العاديين عبر العالم في مقاطعة خدمات وبضائع الشركات المشتبه بدعمها للكيان وسيلتهم الأقرب للتعبير عن رفضهم للحرب، وتضامنهم مع ضحاياها، فكأنّها أضعف الإيمان.
وبالفعل فإن ملايين الأشخاص في دول عربيّة وإسلاميّة، كما في الغرب، شاركوا في حملات لمقاطعة عدد من الماركات العالميّة ذات القيمة الرمزية العالية، مثل سلاسل محلات القهوة (ستاربكس)، ومطاعم الوجبات السريعة (ماكدونالدز)، وغيرهما، إضافة إلى عدد من متاجر التجزئة الغربيّة مثل (كارفور)، وبعض الأسماء الشهيرة في فضاء المواد الغذائية والاستهلاكيّة مثل (كوكا كولا) و(بيبسي)، وانتقل جزء من الاستهلاك الذي فقدته الماركات المستهدفة إلى ماركات محليّة أو مستوردة من دول لا تشارك في دعم الكيان، فيما بحث البعض عن بدائل مصنعة منزلياً للاستغناء عن تلك الماركات بالاستفادة من سهولة تبادل الوصفات عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
على أن هذا الشّكل من المقاومة السلبيّة للعدوان وداعميه تسبب في جدالات لم تنته منذ أكتوبر /تشرين أول الماضي، وأصبحت موضوعاً للأخذ والعطاء في برامج الحوارات التلفزيونية بين فريقين يرى أولهما في المقاطعة سلاحاً ماضياً لا بدّ من تفعيله على نطاق أوسع وتوسيع دائرة استهدافه للخدمات والسلع المرتبطة بداعمي الكيان، بل وربما نقل الاحتجاجات إليها، وفريق ثان يشكك في فعاليتها، ويقلل من تأثيرها على أعمال الشركات متعددة الجنسية، ويعتبرها ضربة غير موفقة تصيب العاملين ورأس المال الوطني المستثمر في الحصول على امتيازات وحقوق توزيع منتجات تلك الشركات في الأسواق المحليّة بشكل أكثر بكثير من أن تؤذي مصالح المالكين. وللحقيقة فإن جهوداً من أطراف مختلفة بما فيها بعض الحكومات العربيّة قد حاولت كسر حدة المقاطعة عبر الدّفاع عن المستخدمين المحليين الذين فقدوا وظائفهم، ناهيك عن شعور بعض المقاطعين أنفسهم بالفتور بعد أن طال زمان حرب الإبادة، ودخلت في شهرها الخامس.
«ستاربكس» تشكو مرارة طعم المقاطعة
من الصّعب بالطبع التحقق من التأثير الفعليّ للمقاطعة على أعمال الشركات المستهدفة في ظل تعقد العوامل الاجتماعية والاقتصاديّة التي تؤثر على مستويات الاستهلاك. لكن بعض الشركات الكبرى مثل (ستاربكس) حذّرت علناً بأن مبيعاتها في الفصل الأخير من العام 2023 تضررت بشكل ملموس بسبب أنشطة المقاطعة المرتبطة بالحرب الإسرائيلية على غزّة، وتوقعت أن يستمر هذا التأثير السلبي خلال الربع الأول من العام الحالي على الأقل.
وستاربكس تحديداً – كانت دائماً هدفاً لمحاولات مقاطعة سابقة في العالمين العربي والإسلامي بوصفها – على مستوى ما – منتجاً ثقافياً أمريكياً، مع تردد اتهامات لكبار التنفيذين في الشركة بدعمهم مادياً للكيان العبري وجيش (دفاعه). رهان ستاربكس في البداية كان على الملل الذي ما يلبث يصيب الجمهور بعد أسابيع من إطلاق حملات المقاطعة ما يؤدي إلى تفككها تدريجياً.
على أن ثمة شيئاً بدا مختلفاً هذه المرّة، إذ ارتكبت الشركة ما اعتبره البعض استفزازاً مبالغاً به، بعد أن أقدمت الإدارة التنفيذية العليا دعوى قضائيّة على نقابة للعاملين فيها بسبب منشور على موقع إكس (تويتر سابقاً) أعرب فيه منسوبو النقابة عن تضامنهم مع الفلسطينيين. إذ اعتبرت الإدارة أن استخدام اسم الشركة وشعارها وعلامتها التجارية في منشور ذي طابع سياسيّ تسبب بتشويه سمعتها، فيما أدان النقابيّون محاولات الإدارة للإيحاء بأن العاملين يدعمون الإرهاب، ويمجدون العنف ضد المدنيين.
وهكذا وجدت ستاربكس نفسها موضعاً لانتقادات حادة من مؤيدي طرفي الحرب في غزة، فتضخم حجم المقاطعين، وتعرضت المحلات في غير ما مدينة إلى تضييق مباشر من ناشطين، لدرجة أن الرئيس التنفيذي للشركة لاكسمان ناراسيمهان اعترف بأن للمقاطعة «تأثيرا سلبيا للغاية على سير الأعمال» على حد تعبيره، واشتكى في رسالة مفتوحة من أن متاجر ستاربكس تعرضت لحوادث تخريب في مدن متعددة حول العالم، بما فيها داخل الولايات المتحدة نفسها، وتراجعت أعمالها بشكل ملحوظ في بعض الأقاليم مثل الشرق الأوسط، ويبدو أنها تأثرت سلبياً أيضاً في سوقها الأمريكي، الأمر الذي بدأ بإثارة قلق أسواق تجارة الأسهم والمستثمرين.
وكانت الشركة في مواجهة حملات المقاطعة قد أعلنت في بيان للعموم أنها «ليس لديها أجندات سياسية»، ونفت شائعات تتردد على وسائل التواصل الاجتماعي بأنها تستخدم نسبة من أرباحها لدعم الجيش الإسرائيلي، وقالت إن أعمالها تأثرت سلباً بشكل جزئي على الأقل بسبب مفاهيم وصفتها بالمغلوطة حول موقفها من (الصراع).
وماكدونالدز أيضاً: العبوس ألم بالمهرّج ذي الزيّ الأصفر ماكدونالدز، سلسلة المطاعم السريعة الأكبر في العالم لم تخف إصابة مهرجانها الأصفر الشهير بالعبوس بعدما تراجعت مبيعات قسمها الدّولي – امتيازات الفرنشايز التي تغطي أكثر من ثمانين سوقاً حول العالم – بشكل حاد خلال الربع الأخير من العام الماضي. وفسّرت الشركة ذلك بتراجع الطلب على مطاعمها في منطقة الشرق الأوسط، وكذلك تلك الموجودة في دول ذات أغلبيات مسلمة مثل إندونيسيا وماليزيا.
وأصبحت الشركة هدفاً أساسياً لحملات المقاطعة بعدما تناقل النشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي تباهي مطاعم الشركة في الكيان العبري بتقديمها عشرات الآلاف من وجباتها لجنود الجيش الإسرائيلي أثناء التحاقهم بوحداتهم العسكريّة متجهين إلى غزة. ورغم أن الشركة حاولت التنصل مما فعله حاملو ترخيصها في الكيان العبري عبر بيان قالت فيه «نشعر بالفزع من المعلومات المضللة والتقارير غير الدقيقة المتعلقة بموقفنا ردا على الصراع في الشرق الأوسط. ونجدد التأكيد على أن شركة ماكدونالدز لا تمول أو تدعم أي حكومات متورطة في هذا الصراع». وأن «أيّة إجراءات» من وكيلها في (إسرائيل) اتخذت على المستوى المحلي دون موافقة مسبقة من ماكدونالدز الشركة الأم.
تأثير مؤقت أم دائم: ثمّة ما تغيّر هذه المرّة!
الشركات الكبرى، مثل ستاربكس وماكدونالدز وكوكا كولا معتادة بالطبع على نوبات غضب تأتي بين الحين والآخر من المستهلكين، ولديها من الأدوات والأموال ما يمكنها دائماً من تجاوزها. لقد تعرّض بعضها من وقت قريب لحملات مقاطعة بسبب تعاملها القاسي مع جهود التنظيم النقابي لعمالها، وانتقدت أخرى بسبب تأييدها زواج المثليين، أو حتى لتغيير خلطة الصنف المعتاد. ومع ذلك يبدو أن مشاعر الجمهور تفتر سريعاً، إذ استمرت الشركات في النمو، وغالباً ما عاد المقاطعون لاستئناف استهلاكهم للخدمة أو السلعة على النمط الاعتيادي لهم قبل التزامهم بالمقاطعة.
لكن الأمر يبدو مختلفاً هذه المرة، إذ أن المقاطعة كانت غالباً محدودة من حيث المنطقة الجغرافية والمدة الزمنية، لكنها أخذت هذه المرّة بعداً عالمياً، كما أن الحرب على غزة استمرت لأكثر من المعتاد في حروب الشرق الأوسط المعاصر، وهناك خشية بأنها ستستمر لمزيد من الوقت مع سقوط مزيد من الشهداء والجرحى وتضاعف معاناة الناجين، وإذا استمرت جهود المقاطعة في موازاة استمرار القتل، فإنها قد تكون كافية عندئذ لتحقيق تحوّل نوعيّ في أنماط الاستهلاك على نحو يقلل من فرص استعادة الشركات لعملائها المقاطعين مجدداً. فلنترك الرسميين لتخاذلهم. المقاطعة فاعلة، وبوسع كل منّا أن يكون مؤثراً.