لم تسلم المواقع الثقافية والأثرية في غزة من الحرب، إذ تسببت المعارك الدائرة في القطاع بتدمير قصر نابوليون وموقع الأنثيدون الأثري اليوناني واحتراق المتحف الخاص الوحيد في القطاع. لكنّ بعضاً من هذه الكنوز القديمة وجد ملاذاً داخل مستودع في سويسرا.
للمفارقة، يعود الفضل في ذلك إلى الحصار الذي يضيّق الخناق على سكان القطاع منذ 16 عاماً.
وبالاستناد إلى صور أقمار اصطناعية، أكّدت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونسكو) أنّ نحو 41 موقعاً تاريخياً دُمّر منذ بدء إسرائيل قصفها على غزة بعد هجوم حماس على الأراضي الإسرائيلية في السابع من تشرين الأول/أكتوبر.
ميدانياً، يتابع عالم الآثار الفلسطيني فضل العطل لحظة بلحظة الدمار الذي يلحق بهذه المواقع.
عندما تكون شبكة الإنترنت والكهرباء متوافرتين، تصله صور عبر مجموعة على تطبيق «واتساب» أنشأها مع نحو أربعين عالم آثار يستعين بخدماتهم لمراقبة الشبكة الواسعة من المواقع والمعالم الأثرية في المنطقة.
منذ سنوات مراهقته خلال تسعينيات القرن العشرين، بدأت بعثات أثرية أوروبية الاستعانة به، قبل أن يسافر لتلقّي دروسه في سويسرا وفي متحف اللوفر في باريس.
ويقول العطل، في محادثة هاتفية من غزة «لقد استُهدفت كل الآثار في الشمال».
وأدى هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر على إسرائيل إلى مقتل أكثر من 1170 شخصا، غالبيتهم من المدنيين، استنادا إلى أرقام إسرائيلية رسمية.
وبالإضافة إلى الخسائر البشرية، خلفت الحرب أضراراً فادحة في المواقع الأثرية والتاريخية في غزة.
دمرت مدينة أنثيدون اليونانية القديمة
وقال العطل «استُهدفت بلخيا (مدينة أنثيدون اليونانية القديمة)، ما أحدث فجوة ضخمة»، مضيفاً «لم نكن قد بدأنا التنقيب» في جزء من المعلم الواقع على مقربة من مواقع لحركة حماس.
وأشار إلى أن «قصر الباشا الذي يعود تاريخه إلى القرن الثالث عشر دُمّر بالكامل. قُصف الموقع ثم مرّت الجرافات فوقه».
وتابع بعد الإشارة الى صور حديثة للمواقع المدمّرة «كان القصر يحتوي على مئات القطع الأثرية والنواويس المذهلة».
ويُروى أن نابليون كان يقيم في الموقع المشيّد من الأحجار ذات اللون الرملي عند النهاية الكارثية لحملته على مصر عام 1799. وكانت الغرفة التي يشاع أن الإمبراطور الفرنسي أقام فيها مليئة بالتحف البيزنطية.
وقال جان باتيست أومبير من المدرسة الفرنسية للكتاب المقدس والآثار في القدس (إيباف) «كانت أفضل اكتشافاتنا معروضة في قصر الباشا»، لكن مصيرها بات مجهولاً، متسائلاً «هل أخرج أحدهم القطع الأثرية من المبنى قبل تدميره؟».
وازداد القلق إثر نشر مدير هيئة الآثار الإسرائيلية إيلي إسكوسيدو عبر انستغرام مقطع فيديو لجنود محاطين بمزهريات وفخاريات قديمة داخل مستودع «إيباف» في مدينة غزة.
وكان القسم الأكبر من الآثار التي عُثر عليها خلال أعمال التنقيب في غزة يُحفظ إما في متحف الباشا أو في المستودع.
وسارع الفلسطينيون إلى اتهام الجيش الإسرائيلي بنهب هذه الآثار، بينما أكد عالم الآثار في «إيباف» رينيه إلتر أنه لم ير أي دليل على «نهب الدولة».
وقال «تمكن زملائي من العودة إلى الموقع، لكنّ الجنود كانوا قد فتحوا الصناديق، ولا نعرف ما إذا أخذوا أي قطع».
وأضاف «كلّما يتّصل فضل (العطل) بي، أخشى أن يُعلمني بوفاة أحد زملائنا أو بأنّ هذا الموقع أو ذاك قد دُمّر».
ويرتدي علم الآثار بعداً سياسياً في إسرائيل والأراضي الفلسطينية، وغالباً ما تُستخدم الاكتشافات لتبرير مطالب الشعبين المتنازعين.
وفي حين توجد في إسرائيل مجموعة كبيرة من علماء الآثار الذين اكتشفوا عدداً كبيراً من الكنوز القديمة، بقي هذا المجال مهملاً في غزة رغم ماضيها الغني الممتد على آلاف السنين.
كانت غزة الميناء لقرون عدة نقطة تلاقٍ بين الحضارات وجسراً يصل إفريقيا وآسيا ومركزاً لتجارة البخور، ما أثار شهية المصريين والفرس واليونانيين والرومان والعثمانيين.
ومن الشخصيات الرئيسية التي ساهمت في التنقيب عن الآثار خلال العقود القليلة الفائتة، جودت الخضري، وهو قطب بارز في قطاع البناء وجامع قطع أثرية.
وشهدت غزة، مع عقاراتها المطلة على البحر، طفرة عقارية في تسعينيات القرن الفائت بعد اتفاقية أوسلو وإنشاء السلطة الفلسطينية.
وعثر عمّال البناء في القطاع خلال أعمال الحفر لتشييد المباني، على كمية كبيرة من القطع الأثرية. وقد جمع الخضري مجموعة منها يتيح لعلماء الآثار الأجانب معاينتها.
وانتاب أمين متحف الفن والتاريخ في جنيف مارك أندريه هالديمان، ذهول عندما دُعي لمعاينة حديقة قصر الخضري في العام 2004.
وقال «وجدنا أنفسنا أمام أربعة آلاف قطعة، بينها ممرّ من الأعمدة البيزنطية».
وسرعان ما تبلورت فكرة تنظيم معرض كبير عن ماضي غزة في متحف الفن والتاريخ في جنيف، ثم بناء متحف في غزة حتى يتمكّن الفلسطينيون من إدارة تراثهم بأنفسهم. وفي نهاية العام 2006، نُقلت نحو 260 قطعة من مجموعة الخضري من غزة إلى جنيف، وبات عدد منها لاحقاً جزءاً من معرض في معهد العالم العربي في باريس. لكن التغيّرات الجيوسياسية أثّرت على هذا المسار. ففي حزيران/يونيو 2007، طردت حماس السلطة الفلسطينية من غزة، وفرضت إسرائيل حصارها على القطاع.
ونتيجة لذلك، باتت عودة القطع الأثرية إلى غزة مسألة صعبة وبقيت عالقة في جنيف، في حين توقف الحديث عن مشروع المتحف الأثري.
إلا أنّ الخضري لم يفقد الأمل. وبنى على ساحل البحر الأبيض المتوسط شمال مدينة غزة موقعاً اتخذ شكل فندق ومتحفا سمّاه «المتحف».
وقال الخضري الذي فرّ من غزة متوجهاً إلى مصر إن «المتحف بقي تحت السيطرة الإسرائيلية لأشهر عدة».
ودخلت القوات الإسرائيلية قطاع غزة بعد بدء عمليتها البرية في القطاع في 27 تشرين الأول/أكتوبر.
وأضاف «بمجرد مغادرة الجنود الإسرائيليين، طلبت من بعض الأشخاص زيارة الموقع لمعرفة الحالة التي أصبح عليها. وقد صُدمت، إذ فُقد عدد من القطع واحترقت القاعة».
جرافات إسرائيل
ودُمّر القصر التابع للمتحف خلال استهداف حي الشيخ رضوان في مدينة غزة. وقال الخضري «لقد شغّل الإسرائيليون جرافات على أراضي الحديقة… ولا أعرف ما إذا كانت القطع قد دُفنت (بسبب الجرافات) أو ما إذا كانت الأعمدة الرخامية قد تحطمت أو نُهبت. لا أجد كلاماً يعبّر» عن المشاعر حيال ما حصل.
وفيما ضاع جزء من مجموعة الخضري، لا تزال القطع الموجودة في سويسرا سليمة، وأُنقذت بسبب الحصار الذي أخّر عودتها.
وقالت الأمينة الحالية لمتحف الفن والتاريخ في جنيف بياتريس بلاندان «كانت هناك 106 صناديق جاهزة لنقلها».
وبعيدا عن الحرب المستعرة في غزة، أشارت الى «أن القطع في حالة جيدة. وقد رممنا بعض القطع البرونزية التي كانت متآكلة قليلاً وأعدنا تغليف كل شيء».
وتابعت «كان علينا التأكد من أنّ موكب (نقل القطع) لن يُعَرقَل. كنا ننتظر الضوء الأخضر».
ولكن مع استحالة استعادة القطع في الوقت الحالي، أشارت بلاندان إلى أن «المناقشات جارية» لإقامة معرض جديد عن آثار غزة في سويسرا.
وقال الخضري من القاهرة لوكالة فرانس برس «أهم مجموعة من القطع الأثرية عن تاريخ غزة موجودة في جنيف. وفي حال نُظّم معرض جديد، سيشكّل فرصة لتعريف العالم برمّته على تاريخنا».