منذ أزمة صواريخ كوبا عام 1962 في حقبة الحرب الباردة، لم يشهد العالم مثل ذلك المستوى المتقدم من المخاطر المهددة باندلاع حرب نووية مدمرة، فيما لم يمنع ذلك استمرار التلويح، بشكل مباشر أو غير مباشر، بالنووي، واستعراض القدرات ضمن رسائل ترهيب متبادلة في أوقات تصاعد حدة الأزمات على المستوى الدولي، وصولاً إلى العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وما صاحبها من استحضار «السلاح النووي»، عبر تهديدات مباشرة أحيت مخاوف اندلاع حرب نووية «لا يمكن تصور نتائجها الكارثية».
عام 1962 نشر الكاتب الأمريكي هيرمان كان كتابه «المُخيف» عن الحرب النووية، بعنوان «التفكير في ما لا يمكن تصوره»، وتحدث فيه عن عوامل اندلاع تلك الحرب وأهدافها، وأبرز السيناريوهات المتوقعة، محدداً عوامل القوة والضعف بالنسبة لجميع الأطراف، بما في ذلك «الفجوة في عدد الصواريخ النووية»، والسيناريوهات «الكارثية»، التي قد تفضي إليها تلك الحرب.
التفكير في ما لا يمكن التفكير فيه بخصوص «الحرب النووية» عادة ما يقود إلى توقع سيناريوهات كارثية، بالنظر إلى القدرة التدميرية الهائلة للأسلحة النووية، والقدرات المتقدمة للدول الحائزة لتلك الأسلحة. من بين تلك السيناريوهات محاكاة للحرب النووية الشاملة بين روسيا والغرب، نشرتها جامعة برينستون الأمريكية عام 2019، (وأعيد تداولها أخيراً في أثناء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا).
قدّر السيناريو الذي رصدته تلك المحاكاة عدد ضحايا الحرب النووية حال اندلاعها بحوالي 91 مليون إنسان، خلال ساعات قليلة (معظمهم من الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا)، فضلاً عن الكوارث العالمية الأخرى، من بينها امتداد خطر المجاعة ليهدد 2.3 مليار شخص حول العالم، وكوارث بيئية وغيرها من المخاطر، التي تهدد العالم بأكمله.
القدرات النووية
تمتلك تسع دول على مستوى العالم الأسلحة النووية، يمكن تصنيفهم إلى قسمين: (الدول المُعتَرف بامتلاكها السلاح النووي رسمياً، وعددها خمس)، (والدول التي تمتلك الأسلحة النووية لكنها لا تعترف بامتلاكه رسمياً، وعددها أربع).
معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية تعترف بخمس دول باعتبارها حائزة للأسلحة النووية، وهي (روسيا والولايات المتحدة الأمريكية والصين وبريطانيا وفرنسا)، وهي الدول الخمس دائمة العضوية بمجلس الأمن الدولي، وجميع تلك الدول -عملاً بالاتفاقية- ملزمة بعدم نقل أي شكل من أشكال الأسلحة النووية وعدم مساعدة الدول غير الحائزة على السلاح النووي أو تشجيعها على امتلاكه.
وطبقاً لأحدث تقارير معهد ستوكهولم لأبحاث السلام، فإن مجموع ما تمتلكه الدول حول العالم (سواء المعترف بامتلاكها سلاحاً نووياً أو غير المعترف به رسمياً) يصل إلى أكثر من 13 ألف قنبلة نووية حتى يناير 2021.
يُستخدم السلاح النووي «كورقة نفوذ» في عديد من الملفات وكورقة «ضغط قسري»، خلال الأزمات والنزاعات الدولية، وهو ما لجأت إليه روسيا أخيراً، إذ لوّحت بـ«الردع الاستراتيجي»، عندما أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بعد بدء العملية العسكرية في أوكرانيا، عن وضع قوات الردع النووية في حالة التأهب، وهي الخطوة، التي اعتبرتها الولايات المتحدة وحلف الناتو «تصرفاً خطيراً».
التلويح بورقة «النووي» لتحقيق مكاسب جيوسياسية يبدو في تصور الباحث بمؤسسة «نيو أمريكا» باراك بارفي، أشبه بـ«المقامرة»، ويوضح أن التلويح بتلك الورقة وسيلة للمناورة والابتزاز تظهر في النزاعات المماثلة للحالة القائمة بين روسيا والغرب.
تدبير دفاعي
ويتحدث بارفي في تصريحات لـ«البيان» عن التصعيد الراهن بين روسيا والغرب، والذي سبق أن لوحت خلاله موسكو بـ«الردع النووي»، موضحاً أن «تهديد الرئيس الروسي باستخدام الأسلحة النووية من المحتمل أن يكون تدبيراً دفاعياً لمنع الناتو من تصعيد الحرب، لأن الناتو لا يعرف الخطوط الحمراء لبوتين، وبالتالي فإن ذلك يخلق مستوى من الغموض يمكنه (بوتين) استغلاله».
تناور روسيا بهذه «الورقة» من أجل وضع خصومها في حالة قلق وتأهب لأقصى السيناريوهات، في ضوء غموض بوتين، سعياً للحصول على مكاسب خاصة على طاولة المفاوضات.
وطبقاً لبارفي فإن «استراتيجية الرئيس بوتين النووية هي في الواقع استراتيجية ذكية، يستخدمها عديد من القادة في منصبه، هذا بالطبع يفترض أنه ممثل عقلاني ومستقر.. إنها استراتيجية مختلفة، لا أحد يعرف متى يخادع بوتين».
كان المخزون النووي للولايات المتحدة الأمريكية قد بلغ ذروته في خضم الحرب الباردة مع روسيا، وبلغ حينها 31255 رأساً حربياً، ورغم تقلص الترسانة النووية لكلٍ من الولايات المتحدة وروسيا بعد الحرب الباردة، إلا أن البلدين لا يزالان يستحوذان على أكبر ترسانتين للأسلحة النووية في العالم. وتأتي روسيا في المقدمة بأكثر من ستة آلاف قنبلة نووية، تليها الولايات المتحدة بحوالي 5550 قنبلة نووية، والصين بـ 350 قنبلة نووية، وفرنسا 290 وبريطانيا 225، فيما تمتلك الدول الأربع الأخرى (الهند وباكستان وإسرائيل وكوريا الشمالية) 460 رأساً نووياً، بحسب أحدث تقارير معهد ستوكهولم.
ومع تصاعد التوترات، قطع الرئيسان بوتين وبايدن الطريق أمام استحضار سيناريو «الحرب النووية»، عندما وقعا في منتصف يونيو الماضي بياناً مشتركاً أكدا فيه «استحالة وجود رابح من الحرب النووية»، محذرين من مغبة استخدام الأسلحة النووية أو التلويح بها، ولو على سبيل المزاح أو استعراض القوة، بينما رفعت تلك الهالة من الغموض التي تطبع الموقف الروسي، والتي يشير إليها بافلي، مستوى التأهب والمخاوف لدى خصومه، وهو ما تعبر عنه عديد من الوقائع، منها تصريحات السيناتور الجمهوري روجر ويكر، الذي دعا- قبل الغزو الروسي لأوكرانيا- الرئيس جو بايدن إلى «عدم استبعاد إمكانية توجيه ضربة نووية استباقية إلى روسيا».
مخاطر متصاعدة
تاريخياً، وبينما لم تُستخدم الأسلحة النووية إلا مرتين (ضد اليابان خلال الحرب العالمية الثانية في العام 1945)، فإنه ومع إدراك جميع الأطراف حالياً لخطورة سيناريو «الحرب النووية» ومآلاتها المدمرة، فإن التهديد باستخدامها عادة ما يلوّح به عديد من الأطراف، وقد ربطت روسيا اللجوء إلى هذا السلاح- على لسان الناطق باسم الكرملين دميتري بيسكوف في تصريحات سابقة لشبكة «سي إن إن»- بوجود خطر وجودي يهدّد روسيا.
وبالتالي فإن سيناريو الحرب النووية وإن يبدو منخفضاً، إلا أنه ليس احتمالاً صفرياً أو منعدماً، بحسب ما يؤكده الخبير الاستراتيجي النووي بجامعة هامبورغ في ألمانيا، أولريش كوهن في تصريحات إعلامية، وبالتالي قد تُخرج سخونة الأحداث وتطورها ذلك التهديد المنخفض من الهامش إلى المتن، ليشكل خطراً حقيقياً يفرض نفسه على الصراع.
يقول الأكاديمي الأمريكي أستاذ العلاقات الدولية في جامعة هاملتون في نيويورك، آلن كفروني، في تصريحات لـ«البيان»: إن من بين الشروط التي تحددها العقيدة الروسية لاستخدام الأسلحة النووية «العمل الذي قد يهدد وجود الدولة الروسية».
ويشير إلى أنه بعد العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا في 24 فبراير الماضي وضع بوتين القوات النووية الروسية في حالة تأهب، وحذر قادة الغرب من أنهم قد «يواجهون عواقب لم يروا مثيلاً لها في التاريخ».
ويضيف خبير العلاقات الدولية: من الواضح أن هذه الخطوات كانت إشارة إلى الولايات المتحدة وحلف الناتو بعدم نشر قوات في أوكرانيا، والحد من الدعم العسكري لكييف (..) وبالتالي فإن تصعيد الناتو الإضافي للنزاع يزيد من خطر تجاوز العتبة النووية، لا سيما في سياق حالة الجمود. قد يكون هذا غير مرجح، لكنه يؤكد حاجة الناتو إلى مقاومة التصعيد والعمل نحو المفاوضات والتسويات.